Article

حادثة الإسراء والمعراج: دروس وعبر

بسم الله الرّحمن الرّحيم

حادثة الإسراء والمعراج: ( دروس وعبر)

مرّ النّبيّr بظروف عصيبة في دعوته، وتتالت عليه محن شديدة، تعرّض فيها للإهانة والأذى؛ في سبيل تبليغ رسالة الإسلام وما نزل عليه من ربّه U. كان يصبر ويحتسب أجره عند  بارئهِ، وهو متبقّنٌ أنّه لن يخذله، ولن بتركه من دون نصرة. وكان يرجوه ويدعوه أن يخفّف عنه ما يعانيه من كفّار قريش...مع كلّ ذلك لم يتأثّر بما لحق به، ولم يتخلَّ عن مواصلة الدّعوة، بكلّ ما أوتي من قوّة، وما وجد من وسائل..

رحم الله الحليم نييّه، فمنحه ما يخفّف عنه هذا الضّغط النّفسي والمعاناة الشّديدة – كما يراهما ويتصوّرهما أعداؤه -  وأكرمَهُ  وجزاه على جهاده الكبير في تبليغ أوامرِهِ إلى عباده، بأن هيَّأَ له معجزة، هي آية في العظمة. هي محطّة مهمّة، جاءت في الوقت المقدّر، وفي الفترة المناسبة الحاسمة؛ لتعطي للدّعوة نفسًَا جديدًا، وقوّة أخرى، تدعم عمل النّبيّr..، وتجدّد عزيمته في السّير بالدّعوة الإسلاميّة قدمًا إلى الأمام، مادام الكفيل بالنّصرة هو الله، ومادام المؤيّد هو الله، ومادام الحامي من الأعداء هو الله..هذه المكرمة هي حادثة الإسراء والمعراج. الإسراء أشار إليه الله تبارك وتعالى في سورة الإسراء: {سُبْحانَ الذي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ المسْجِدِ الحرامِ إلى المسْجِدِ الأقْصَى الذي بَاركْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِن آياتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّميعُ البَصِيرُ}(الآية:1). وذكر المعراج في سورة النّجم، وفي كلا السّورتين أكّد الله U على كبر الآيات في هذه الحادثة العظيمة.

هذه المحطّة مهمّة في السّيرة النّبويّة، وهي من الأحداث التي يجب التّوقّف عندها مليًّا لأخذ العبر منها، وإفادة دروس في التّربيّة والتّوجيه والإرشاد...

1 - في هذه الرّحلة أتاح الله لنبيّهr الاطّلاع على آياته الكبرى؛ ليعرف  - أكثر - مظاهر قدرته وعظمته وتصرّفه المطلق في ملكوته، وهيمنته غير المحدودة، على خلقه..؛ ما يدعو ويهدي إلى الخضوع له والإذلال لإرادته، وفي الوقت نفسه يرسّخ في النّفوس الثّقةَ في الرّبّ الجبّار المتكبّر.. هذا اليقين يدفع المؤمن إلى الإجسان في العبادة، بل الإخلاص فيها: رغبة ورهبة.

قبل ذلك تعطي هذه الرّحلةُ الرّسولَ الكريم ثقةً في نفسه ليواجه قوى الكفر العاتيّة، وشرّ المعتدين المزايد.. يقدّم كلُّ هذا درسًا لكلّ مصلح وداعيّة وسائر في الخير..أن يصبروا ويثَبِّتوا اليقين في قلوبهم.. أنّ الله معهم في كلّ لحظة، فلا نيبغي أن يتأخّروا عن الإصداح بالحقّ ونصرة الخلق، فإنّ الله ناصرهم في أعمالهم كما نصر نبيّه وأمدّه بالقوّة واليقين، في هذه الحادثة وغيرها.

2 – بيّنت الرّحلة أنّ محمّدًا r بإسرائه من مكّة إلى القدس، ومن المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وإمامته الأنبيّاء الذين سبقوه، وكان خاتمتَهم..بيّ       نتْ أنَّه إمام المرسلين كلّهم، وأنّ رسالته هي الخاتمة والخالدة إلى يوم الدّين، وأنّها عامّة لكلّ البشر.. يعني هذا أنّ اتّباع الشّريعة التي أتى بها محمد r واجب، لا يجوز ابتغاء غيرها، فإنّ اتّباع شريعة أخرى غير مقبول. ليتأكّد أتباع محمد r - بهذا - أنّهم على حقّ، وأنّ من حاول التّشكيك فيما أتى به من عند الله تبارك وتعالى لغو وهراء وضلال، يجب الإعراضُ عنه، وعدم السّماع لكلّ ما يقولون، بل يجب الثّبات على النّهج الذي جاء به، والصّبر على كلّ ما يلاقون في سبيل ذلك، كما صبر هو، وما أكرمه الله به في هذه الحادثة برهان وحجّة على هذا.

3 – إنّ الإسراء بالنّبيّ r إلى المسجد الأقصى، والعروج به منه إلى السّموات العلى، إشارة واضحة وصريحة وموجّهة لإدراك ما لهذا المسجد من قداسة وأهميّة عند الله تبارك وتعالى.. ثمَّ وعي أنَّ مسؤوليّة المسلمين في كلّ زمان وفي كلّ الحالات..كبيرة وعظيمة وواجبٌ دينيّ...في المحافظة عليه، وحمايته من كلّ اعتداء وكلّ أذى يلحقه، وفي إنقاذه من أيدي الغاصبين له، ومن اليهود الماضين في تدنيسه..لن يعذروا ولن يغفر الله لهم إن هم قصّروا في هذا الواجب.. هل وعى المسلمون هذا الدّرس؟ هل فهموا هذا الواجب؟ فماذا فعلوا، وماذا هم فاعلوه ليكتمل إيمانهم بما أمرهم الله به، ممّا يقرأ ويدرك من هذا الحدث الكبير العظيم.

إنَّ في مشاعر مفدي زكريّاء ما يعبّر عن هذا التّقصير، ويدعو إلى تدارك الأمر بالنّهوض بالواجب نحو فلسطين، عسى أن يكون فيها ما يُحيِي الأمل في القيام بحقّه وحقّ فلسطين عامّة من أبنائها:

فلسطينُ       يا مهبطَ        الأنبيا

 

ويا      قبلةَ       العرب       الثّانبَهْ

... فلسطبنُ    والعُربُ   في  سكرةٍ

 

قد        انْحدروا     بك     للهاويَهْ

رماكِ     الزّمانُ       بكلِّ      لئيمٍ

 

زنيمٍ         من     الفِئةِ      الباغيَه

 

 

...قال   ابنُ   يعربٍ    لـمَّا    تيقَّـــــــــ

 

ــــظَ لَـمْ  أدْرِ – من  سكرتي - ماهيَهْ 

ولم         أتفطَّنْ        (  لثالوتِها )

 

ولم  أدْرِ   -  من غَفْوَتِي  -  ما هيَهْ

...  فبا  ليتني    لَـمْ    أَخُنْ   ثورتي

 

وَلَـمْ      أُطْفِ    نيرانَها      الحاميَهْ

ويا   ليْتَها    لَـمْ   تَكُنْ   (  هُدنَةٌ )

 

ويا     لَيْتَها       كانتِ     القاضيَهْ

 

 

4 – في المعراج شرعت الصّلوات الخمس. هذا التّشريع الذي تمّ فوق السّموات السّبع، بعد سدرة المنتهى، إشارة قويّة إلى مكانة الصّلاة في الإسلام، وأهمّيتها بين التّشريعات الأخرى، التي شرعت كلّها على الأرض، أو نزل فرضُها  على المسلمين إلى الأرض، وتلقّاها فيها النّبيّ r، إلاّ الصّلاة فإنّه عَرج إليها ليتلّقى مشروعيّتها في السّماء.. هذه الطّريقة التي تمّ بها هذا التّشريع تبيّن أنّ قيمة الصّلاة عند الله لا تعدلها قيمة، ما يعني أنّ الاحتفاء أو العناية بها يفوق كلّ عناية بأيّ تشريع آخر، وفي المقابل فإنَّ التّقصير فيها؛ اعتقادًا وأداء يعرّض صاحبها لأقسى العقوبات، تتمثّل في رفض كلّ أعماله إنْ لم تقبلْ صلاته.

إذن لابدّ من الاعتناء بها؛ بطهارة القلب والجسم واللّباس والمكان، والمحافظة على أدائها في وقتها، والقيام بكلّ أركانها وشروطها..كما أمر الوحي السّماوي..بأداء الفرد لها  بهذه الضّوابط تكون له معراجًا يرقى بها إلى الدّرجات العلى، وينال مرضاة ربّه، كما نالها نبيّهr فعرج به إلى السّموات العلى ليأتي له بهذه الصّلاة، عمود الدّين..

5 – ما أرى اللهُ U نبيَّه محمّدًا r من المصير المخزي للعصاة والمخالفين شرعَ الله تبصرةٌ لمن كان له قلب أو ألقى السّمع وهو شهيد، وتحذير له  من  عدم الالتزام بشرع الله؛ فيلتزم صراطَه المستقيم، ويتخلّى عن السّبل التي تتفرّق به عن هذا الصّراط، ويتجنّب سخط الله وعذابه الشّديد الدّائم. وفي هذا حجّة على كلّ عاص ومخالف لأوامر الله.

عبر كبيرة نأخذها من هذه المحطّة المهمّة في السّيرة النّبويّة، ودروس عميقة الأثر تتضمّنها هذه الحادثة الكبيرة، فالمؤمن الكيّس الفطن هو من دان نفسه وعمل لما بعد الموت؛ بالإفادة من أمثال هذه المشاهد، والعمل بما فيها من دلالات وتوجيهات. وفّقنا الله لاستلهام سيرة نبيّنا الكريم، واتّباع سنّته قولا وعملا. {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمومنون وستردّون إلى عالم الغيب والشّهادة فينبّئكم بما كنتم تعملون.} (التّوبة/ 105)

 

                                                     الجزائر يوم السّبت: 27  من  رجب   1436ه  

                                                                         16  من  ماي     2015م

                                                             الدّكتور محمد بن قاسم ناصر بوحجام

 

  

 

Auteur(s): 

Mohamed ben quassem nacer bou hajjem

محمد بن قاسم ناصر بو حجام

من مواليد  03 نوفمبر 1951م، القرارة، غرداية
ـ زاول تعلّمه الابتدائي في مدرسة الحياة ( القرارة ) وفيها استظهر القرآن الكريم يوم 21 أوت ( أغسطس ) 1966م.
ـ التحق بمعهد الحياة الثّانوي ( القرارة) تخرّج فيه سنة 1972م.
ـ انضمّ إلى معهد اللّغة والأدب العربي ، جامعة الجزائر. تخرّح فيه سنة 1977م.
متحصّلا على شهادة اللّيسانس في اللّغة والأدب العربي.
ـ حصل على دبلوم الدّراسات الإسلامية من معهد الدّراسات الإسلامية بالقاهرة .