Article

دروس وعبر من الهجرة النّبويّة

بسم الله الرّحمن الرّحيم

دروس وعبر من الهجرة النّبويّة

يقول  الشّيخ محمد متولِّي شعراوي: " فما أكثر في الإسلام من مناسبة..وما أكثر في الإسلام من وقائع..ولكن أخشى ما أخشاه أن يعيش الإسلام في المسلمين وقائع تاريخ..وأحداث مناسبات..وإحياء مواسم..فلا نذكره إلاّ في الـمناسبة  التي تمرّ.. ولا نحييه إلاّ بحفاوة كلاميّة، تذهب هباءً، بعدما ينتهي بوم الاستقبال. والإسلام إنّما جاء مناسبات تؤصِّل قواعد أصيلة، يجب أن يعيش عليها الأحياء في الأرض؛ ليتحرّكوا حركة منسجمة في الوجود..وإلاّ كان الاحتفال بالمناسبات سخريّة من المناسبة.."

من هذا المفهوم العميق، وبهذه النّظرة الثّاقبة لإحياء الـمناسبات..نودّ سرد بعض العبر والدّروس من الهجريّة النّبويّة، الحدث الكبير في تاريخ الدّعوة الإسلاميّة، والمحطّة المهمّة في السّيرة النّبويّة، ومسيرة نشر القيم والمبادئ، وتأصيل العمل الحضاري البنائي الصّحيح. لا نسرد التّفصيلات ولا نحصي كلّ الدّقائق في الهجرة، إنّما نركّز على بعض العبر والدّروس المستقاة منها، التي تقدّم لنا قواعد للعمل بوعي ودراية وكفاية... لتصحيح أخطائنا في مسيراتنا، ولتتظيم شؤوننا في حياتنا.

لقي المسلمون أذى كبيرًا من قريش في مكّة؛ بسبب إسلامهم وتمسّكهم بدينهم.. عذّبت وقتلت، ونفت...تضايق المسلمون من ذلك كثيرًا؛ رغم ما أبدوه من صبر جميل على هذا الاضطهاد.. شكوا إلى الرّسول r  ذلك مرارا، فكان يطلب منهم الصّبر، ولهم به أجرٌ كبير وثواب عظيم، وهو على يقين انّ الله سيجعل بعد عسر يسرًا، وسيحدث بعد ذلك أمرًا..

جاء الفرج، بالإذن للمسلمين بالهجرة إلى يثرب، فشرعوا يهاجرون، كلٌّ بما أمكن له، إلاّ من تعذّر عليه ذلك؛ لأسباب ذكرتها كتب السّيرة.  ما حدث في الهجرة كثير في تفصيلاته، وكبير في دلالاته ومغازيه، نذكر بعضها فيما يأتي:

1 ـــــــ المسلم المخلص في عبادته لله U لا يهمُّه الوطن ولا المال ولا أيّ شيء آخر، في سبيل دينه، وعقيدته بخاصّة.

2 ــــــــ الإيمان بالله U والتّوكّل عليه لا يمنعان من اتّخاذ الأسباب والاحتياطات في كلّ أمر يريد الإنسان القيام به.

3 ـــــــــ حنّد أبو بكر الصِّدِّيق أمواله وأسرته، ومن لهم صلة به في سبيل خدمة رسول الله r، في رحلة الهجرة الشّاقة الطّويلة؛ نصرةً للإسلام، والدّعوة الإسلاميّة..

هذا ما يجب أن يكون عليه المسلم المؤمن بالله ورسوله، يكون في خدمة ما يرفع كلمة الله عالية، ويحميها من كيد الأعداء. يعمل بجدٍّ وصدقٍ وإخلاص.. لايكفي أن يؤدّي فرائضه المتمثّلة في أركان الإسلام فقط، إنّما يتعدّى هذا وينتقل إلى خدمة الإسلام وصيانته وحمايته،  بمختلف ما يجب القيام به؛ جهادًا في سبيل ذلك..

4 ــــــــ إنّ الجنديّ الصّادق المخلص لدعوة الإسلام يفدي قائده بحياته؛ لأنّ في سلامة القائد سلامةَ الدّعوة والمشروع والقضيّة والدّولة والأمّة والوطن... كما فعل أبو بكر الصّدّيق، الذي قدّم نفسه فداء للرّسول r، يخدمه ويتحمّل كلّ ما يمنع عنه الأذى والمشقّة، بخاصّة حين كانا في الغار، مُختفيَيْن عن أنظار قريش.. لذا اختاره الرّسول r ليكون صاحبه ورفيقه في هذه الرّحلة التّاريحيّة الشّاقّة...

5 ـــــــ البذل والإنفاق في سبيل الله عبادةٌ. على المسلم ألاّ يتأخّر عنها، ولا يتكاسل عن إتيانها. كما فعل الرّسول r، حين  أصرّ على دفع ثمن الرّاحلة  التي تنقله إلى يثرب؛ رغم رغبة أبي بكر في دفع ثمنها،  وكما فعل أبو بكر حين دفع بماله كلِّه في الاستعداد للهجرة. قالت أسماء بنت أبي بكر: لـمّا خرج والدي مع الرّسول r، أخذ ماله كلّه معه.. دخل علينا جدّي أبو قحافة – وقد ذهب بصره – وقال: والله إنّي لأراه (أي أبو بكر) قد فجعكم بماله مع نفسه، قلت: كلاَّ يا أبتِ! إنّه ترك لنا خيرًا كثيرًا.

 قالت: فأخذت أحجارًا، فوضعتها في كوّة في البيت، ثمّ وضعتُ عليها ثوبًا، ثمّ أخذتُ بيده، فقلت يا أبتِ! ضع يدك على هذا المال، قالت: فوضع يده عليه وقال: لا بأس، إذا كان ترك لكم هذا فقد أحسن. وفي هذا بلاغ لكم (أي كفاية) قالت أسماء: والله ما ترك لنا شيئًا، ولكنّي أردتُ أن أُسكتَ الشّيخ بذلك.

هذا هي أخلاق المؤمن القويمة: بذل في سبيل الله U من دون حدود،  كما فعل أبو بكر – رضي الله عنه، وكياسة وحسن تصرّف، وبرٌّ بالوالد من البنت المطيعة أسماء بنت أبي بكر، فالدّين أخلاق وقيم وشمائل وفضائل..

6 ـــــــ الاستعانة بغير المسلمين جائزة، إذا كانت فيها مصلحة للإسلام. بل تكون ضروريّة أحيانًا، حين يتوقّف عليها نصرة الدّين. كما فعل أبو بكر حين استعان بعبد الله بن أُرَيْقِط – وهو مشرك – واستأجره دليلاً خبيرًا بالطّرق والمسالك في الصّحراء. نظر أبوبكر إلى الكفاية وحدها، وهي الأصل في تنفيذ أيّ عمل.. فلم يمنع كونُ الدّليل مشركًا من الاستعانة به في حماية الدّعوة الإسلاميّة..

7 ـــــــ رجل العقيدة الصّادقة يتحرّك طوعًا لها، وبما تدعو به، بهذا السّلوك يجد طمأنينة نفسيّة وراحة بال، وسعادة حقيقيّة..,وفيما حصل في هذه الرّحلة الإيمانيّة الخالصة لوجه الله، وسيرًا وقصدًا إلى المكان الذي تطمئنّ فيه النّفس لعبادة الله U، وتركًا وهجرانًا للمكان الذي يضيّق فيه على العبادة.. فيما حصل فيها دروس وتوجيهات للانطلاق والتّحرّك في الحياة الدّنيا من منطلق العقيدة، ووَفق ما تدعو إليه. فالمسلمون أصحاب عقيدة، تحدّد صلتهم بالله U، وتوضّح لهم نظرتهم إلى الحياة، ورؤيتهم للأشياء؛ طبقًا  لطبيعتها..

8 ــــــ محبّة المؤمنين لرسولهم r كانت شديدة، وقد ظهرت قويّة قبل هجرة الرّسول r إلى يثرب، في بيعتَي العقبة، وبعد وصوله ومكوثه في المدينة. في الاستقبال الرّائع الذي حظي به، وتزاحم أهل يثرب وتنافسهم على تضييفه وخدمته... هذه المحبّة  الكبيرة هي التي ساعدت على اتّباعه والاقتداء به، وهي الضّامنة لتطبيق ما جاء به من عند الله U، والعمل به برضى ويقين وقناعة وإخلاص وصدق..

9 ــــــــ المعجزات الخارقة والكرامات الكييرة التي ظهرت للنّبيّ r في أثناء هجرته، تدلُّ أنّ نصرَ الله U عبادَه العاملين المخلصين متحقّق في النّهاية.. إنّ الله حمى نبيّه وصاحبه من مكر المشركين وأعمى أبصارهم، وهم على باب الغار الذي دخله النّبيّ  وأبو بكر، فلم يتمكّنا من رؤيتهما وهم قريبون منهما. حتّى أنّ أبا بكر قال للرّسول r، حين سمع وقع حوافر خيول المشركين: لو رفع أحدهم قدمه لرآنا، أجابه النّبيّ r: ما ظنُّك باثنين الله ثالثهما. فالله مع المؤمنين الموفّين، يهديهم للأقوم من الأعمال، وللأنجى من الأسباب...قال الله تبارك وتعالى: {إلاَّ تنصُروهُ فقدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الذّين كفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْن إِذْ هُما في الغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إنّ الله معنا فَأَنْزَلَ اللهُ سكينَتَهُ علَيْهِ وأَيَّدَهُ بِجُنودٍ لَمْ تَرَوْهَا وجَعَلَ كلِمَةَ الذينَ كَفَرُوا وَكَلِمَةُ اللهِ هي العُلْيَا واللهُ عزيزٌ حَكيمٌ }(التّوبة/40)

كما ضربت العنكبوت بنسيجها على باب الغار، ما جعل المشركين يقولون: لو دخل أحد في هذا الغار لـما وُجِد نسيجُ العنكبوت على مدخله. ورَدَّهُم أيضًا على الولوج إلى داخل الغار ما رأوه: حمامة على عشّها، حاضنةً بيضَها، في المكان نفسه.. كلّ هذا أقنع المشركين بعدم إمكانية دخول المطلوبين في هذا الغار.. فولّوا على أدبارهم خائبين، ومنهزمين أمام التّدبير الإلهي المحكم، النّاصر عبدَه المؤمن...هذه مكرمة أَكرم بها الله U نبيبّهr.

للشّيخ محمد متولّي الشّعراوي تعليق بديع ورائع على ما حدث أمام الغار، يندرج ضمن المغازي والأبعاد والعبر والدّروس التي تحملها الهجرة النّبويّة.. يقول: " فإذا كنّا نُحدِّثُ أنّ الحمام جاء فباض على الغار.. وإذا كنّا نحدِّثُ بأنّ العنكبوت جاء فنسج بيته..وإذا كنّا نحدِّثُ أنّ شجرةً قامت بباب الغار.. فلماذا نستبعد ذلك على الله؟!!

... والحقُّ سبحانه وتعالى يريد أن يهزأَ بقريش، يقول لهم: إنّكم بالقوّةِ لن تستطيعوا..وبالحيلة أيضًا لن تستطيعوا..لا بالقوّة مجتمعة ولا بالحيلة..ويريد أيضًا أن يسخر منهم بأنّه ردّ جحافلهم وردَّ جبروتهم برمز السّلام، وهو بيض الحمام..وردَّ جحافلهم يبيتِ العنكبوت، وهو أوهَى البيوت.. فالحقٌّ  سبحانه وتعالى جعل من أوهي البيوت قوّة..وجعل من رمز السّلام سلامًا على رسول اللهr. وحين يكون سلامًا على رسول الله r..يكون حربًا على أعدائهr.." (هجرة الرّسول r دروس وعبر، ص: 54، 55).

نصرة الله U نبيّه r  تبدو - أيضًا - فيما حدث لسراقة بن مالك، الذي طمع في الظّفر بالجائزة الكبيرة، التي رصدتها قريش لمن يأتي بالنّبيّ r وصاحبه أبي بكر رضي الله عنه – حيًّين أو ميّتًين...إذ عثرت به فرسُه  حين أصبح قريبًا من الرّجلين المطلوبين، وساخت قوائم فرسه عدّة مرّات، ثمّ سقط منها...فأنجى الله النّبيّ r وصاحبه من القبض عليهما...كلّ هذا دليل على عناية الله تبارك وتعالى بعباده المؤمنين السّارين في طريق الدّعوة بإخلاص وشجاعة وإيمان قويّ ويقين راسخ في نصر الله لهم. فعليهم أن يجتهدوا ويصبروا، ويثبتوا في ميدان العمل فالله ناصرهم:

وَإِذَا  العِنايَةُ،   لاحَظَتْكَ    عُيونُها

 

نَـمْ،   فالـمَخاوِفُ   كلُّهنَّ   أمانُ

فَاصْطَدْ   بِها  العَنْقاءَ، فهيَ حَبَائل

 

وَاقْتَدْ  بِها  الجَوْزاءَ،   فَهيَ   عِنانُ

 

10 ـــــــــ إنّ مكانة المسجد في الـمجتمع الإسلامي كبيرة، هو مصدر التّوجيه والإرشاد والـمحافظة على كيان الأمّة. يدلّ فعل الرّسولr أنّ بناء المسجد في بداية وصوله إلى يثرب (الـمدينة) هو الرّكيزة الأولى في بناء الـمجتمع الإسلامي على أسس صحيحة، وعلى ما يضمن التّنظيم والإشراف القويم للحياة داخل هذا الـمجتمع.

11 ــــــــ أخوّة الدّين أقوى  من أخوّة النّسب، إنّها الأخوّة الحقيقيّة والصّحيحة؛ لأنّها تقوم على جامعة الإسلام ووَحدةِ العقيدة. هذه الأخوّة لا تُفرضُ بالقوّة، ولا بالقوانين والمراسيم، ولا بالإغراءات المصانعة والمداراة...وإنّما تأتي نتيجة تربيّة النّفوس وتزكيّتها، وتطهيرها من دوافع الأنانيّة والشّحّ والأثرة، ونوازع البغض والحقد والحسد..وتدريبها على الإيثار والبذل، وفعل الخير وحبّ الغير. كما فعل النبيّ r؛ حين آخى بين الأنصار والـمهاجرين، على أساسٍ تنْمَحِي به كلمة (أنا)، وتثبتُ كلمة (نحن). ويتحرّك الفردُ في المجتمع بروح الجماعة، حاملاً شعار ( مصلحة الجماعة قبل مصلحة  الفرد). أسّسَ الرّسول r هذه الأخوّة ليزيل عن طريق الـمسلمين الحَميّة الجاهليّة، والعصبيّة القبليّة، ولا تبقى سوى روح الإسلام ومبادئه قواعدَ تسيِّرُ شؤون المؤمنين.

12 ـــــــ الـمسلمون جميعًا مسؤولون عن بعضهم في شؤون دنياهم وأخراهم، مطالبون بنصرة بعضهم بعضًا، ما كان باستطاعتهم فعل هذا..مهما تختلف ديارُهم وبلدانهم..وإن لم يفعلوا وهم قادرون أّثِمُوا. فيما حدث في المدينة بعد الهجرة، وأثناء الحياة المدنيّة ما يوضّح هذا ويبيّنه، ويقدّم دروسًا لكيفيّة تطبيق هذا الـمطلب الشّرعي.

13 ـــــــ ضرورة مراعاة حقوق الجوار، مهما يكن دين هذا الجار، وهذا السّاكن مع الـمسلمين.. ما لم يتعدَّ حدوده، ولمْ يَعْتَدِ على غيره.. كما يجب التّعاون معه، فيما يعود على الجميع بالخير والـمنفعة. بنود (دستور الـمدينة) التي أبرمها الرّسول r، مع يهود الـمدينة بخاصّة. التي حدّد فيها علاقة الـمسلمين بغيرهم..بعد أن أبرم معهم عقد موادعة ومعايشة..بيان لهذا.

هذه الوثيقة تبيّن حرص الإسلام على التّعاون الخالص مع من يجاور المسلمين، ومن يساعدهم على إقامة جسور الودِّ وحسن العشرة.. هذه لبنة مهمّة في بناء المجتمع بناء صحيحًا، تعين على السّير في الحياة قدمًا في سبيل التّطوّر والتّقدّم..

هذه بعض العبر والدّروس المستفادة والمستلهمة من الهجرة  النّبويّة.. نرجو أن تكون واضحة في الأذهان، عساها تسهم في بناء الأركان، والمحافظة على الكيان. والخروج من التّيه ومن وساوس الشّيطان... والله صاحب الهداية والفضل والإحسان..

                                                                   الخمبيس:  01    من  محرّم الحرام     1437هـ

                                                                               15    من  أكتوبر         2015م

                                                                           الدّكتور محمد بن قاسم ناصر بوحجام

Auteur(s): 

Mohamed ben quassem nacer bou hajjem

محمد بن قاسم ناصر بو حجام

من مواليد  03 نوفمبر 1951م، القرارة، غرداية
ـ زاول تعلّمه الابتدائي في مدرسة الحياة ( القرارة ) وفيها استظهر القرآن الكريم يوم 21 أوت ( أغسطس ) 1966م.
ـ التحق بمعهد الحياة الثّانوي ( القرارة) تخرّج فيه سنة 1972م.
ـ انضمّ إلى معهد اللّغة والأدب العربي ، جامعة الجزائر. تخرّح فيه سنة 1977م.
متحصّلا على شهادة اللّيسانس في اللّغة والأدب العربي.
ـ حصل على دبلوم الدّراسات الإسلامية من معهد الدّراسات الإسلامية بالقاهرة .